لئن صح القول بأن النتائج الصائبة هي حصيلة الموازنة بين آراء متعددة جرى التعبير عنها في حرية كاملة، وإنها في كل حال لا تمثل انتقاء من السلطة العامة لحول بذاتها تستقل بتقديرها وتفرضها عنوة.


فإن من الصحيح كذلك أن الطبيعة الزاجرة للعقوبة التي توقعها الدولة على من يخلون بنظامها، لا تقدم ضماناً كافياً لصونه، وأن من الخطر فض قيود ترهق حرية التعبير بما يصد المواطنين عن ممارستها،  وأن الطريق إلى السلامة القومية إنما يكمن في ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح، لمواجهة أشكال من المعاناة - متباينة في أبعادها،  وتقرير ما يناسبها من الحلول النابعة من الإرادة العامة.

وقررت المحكمة الدستورية العليا في حكمها مجموعة من المبادي منها:

  1. إن الدستور حرص على أن يفرض على السلطتين التشريعية والتنفيذية من القيود ما ارتآه كفيلاً بصون الحقوق والحريات العامة على اختلافها، كي لا تقتحم إحداهما المنطقة التي يحميها الحق, أو الحرية، أو تتداخل معها, بما يحول دون ممارستها بطريقة فعالة. ولقد كان تطوير هذه الحقوق الحريات وإنماؤها من خلال الجهود المتواصلة الساعية لإرساء مفاهيمها الدولية بين الأمم المتحضرة, مطلباً أساسياً، توكيداً لقيمتها الاجتماعية، وتقديراً لدورها في مجال إشباع المصالح الحيوية المرتبطة بها, ولردع كل محاولة للعدوان عليها. وفي هذا الإطار، تزايد الاهتمام بالشئون العامة في مجالاتها المختلفة, وغدا عرض الآراء المتصلة بأوضاعها، وانتقاد أعمال القائمين عليها, مشمولاً بالحماية الدستورية، تغليباً لحقيقة أن الشئون العامة، وقواعد تنظيمها وطريقة إدارتها, ووسائل النهوض بها, وثيقة الصلة بالمصالح المباشرة للجماعة, وهي تؤثر بالضرورة في تقدمها، وقد تنتكس بأهدافها القومية، متراجعة بطموحاتها إلى الوراء.
  2. يجب أن يكون انتقاد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته, حقاً مكفولاً لكل مواطن، وأن يتم التمكين لحرية عرض الآراء وتداولها بما يحول - كأصل عام - دون إعاقتها، أو فرض قيود مسبقة على نشرها. وهي حرية يقتضيها النظام الديمقراطي, وليس مقصوداً بها مجرد أن يعبر الناقد عن ذاته, ولكن غايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة, من خلال ضمان تدفق المعلومات من مصادرها المتنوعة, وعبر الحدود المختلفة، وعرضها في آفاق مفتوحة, تتوافق فيها الآراء في بعض جوانبها, أو تتصادم في جوهرها، ليظهر ضوء الحقيقة جلياً من خلال مقابلتها ببعض. وقوفاً على ما يكون منها زائفاً أو صائباً، منطوياً على مخاطر واضحة، أو محققاً لمصلحة مبتغاة.
  3. من غير المحتمل أن يكون انتقاد الأوضاع المتصلة بالعمل العام تبصيراً بنواحي التقصير فيه, مؤدياً على الأضرار بأية مصلحة مشروعة. وليس جائزاً بالتالي أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير عن مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة. أو مواطن الخلل في أداء واجباتها. ذلك أن ما يميز الوثيقة الدستورية, ويحدد ملامحها الرئيسية, هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها, ولا يفرضها إلا الناخبون. وكلما نكل القائمون بالعمل العام - تخاذلاً أو انحرافاً - عن حقيقة واجباتهم, مهدرين الثقة العامة فيهم, كان تقويم اعوجاجهم حقاً وواجباً، مرتبطاً عميقاً بالمباشرة الفعالة للحقوق التي ترتكز في أساسها على المفهوم الديمقراطي لنظام الحكم, ويندرج تحتها محاسبة الحكومة ومساءلتها, وإلزامها مراعاة الحدود, والخضوع للضوابط التي فرضها الدستور عليها.
  4. لا يعدو إجراء الحوار المفتوح المسائل العامة, أن يكون ضماناً لتبادل الآراء على اختلافها، كي ينقل المواطنون علانية تلك الأفكار التي تجول في عقولهم - ولو كانت السلطة العامة تعارضها - إحداثاً من جانبهم - وبالوسائل السلمية - لتغيير قد كان مطلوباً.
  5. لئن صح القول بأن النتائج الصائبة هي حصيلة الموازنة بين آراء متعددة جرى التعبير عنها في حرية كاملة, وإنها في كل حال لا تمثل انتقاء من السلطة العامة لحول بذاتها تستقل بتقديرها وتفرضها عنوة, فإن من الصحيح كذلك أن الطبيعة الزاجرة للعقوبة التي توقعها الدولة على من يخلون بنظامها, لا تقدم ضماناً كافياً لصونه, وأن من الخطر فض قيود ترهق حرية التعبير بما يصد المواطنين عن ممارستها, وأن الطريق إلى السلامة القومية إنما يكمن في ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح, لمواجهة أشكال من المعاناة - متباينة في أبعادها, وتقرير ما يناسبها من الحلول النابعة من الإرادة العامة.
  6. كان منطقياً، بل وأمراً محتوماً، أن ينحاز الدستور إلى حرية النقاش والحوار في كل أمر يتصل بالشئون العامة، ولو تضمن انتقاداً حاداً للقائمين بالعمل العام. إذ لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتاً ولو كن معززاً بالقانون, ولأن حوار القوة إهدار لسلطان العقل, ولحرية الإبداع والأمل والخيال. وهو في كل حال يولد رهبة تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه, بما يدعم الرغبة في قمعها، ويكرس عدوان السلطة العامة المناوئة لها, مما يهدد في النهاية أمن الوطن واستقراره.
  7. انتقاد القائمين بالعمل العام - وإن كان مريراً - يظل متمتعاً بالحماية التي كفلها الدستور لحرية التعبير عن الآراء, بما لا يخل بالمضمون الحق لهذه الحرية, أو يجاوز الأغراض المقصودة من إرسائها.
  8. حرص الدستور القائم على النص في المادة 47، على ضمان حرية الرأي, وكفل لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون, وكان الدستور قد أقام بهذا النص حرية التعبير عن الرأي بمدلول عاماً ليشمل التعبير عن الآراء في مجالاتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, إلا أن الدستور - مع ذلك - عُني بإبراز الحق في النقد الذاتي, والنقد البناء، باعتبارهما ضمانين لسلامة البناء الوطني, مستهدفاً بذلك توكيد أن النقد - وإن كان نوعاً من حرية التعبير - وهي الحرية الأصل التي يرتد النقد إليها ويندرج تحتها - إلا أن أكثر ما يميز حرية النقد - إذا كان بناء - أنه في تقدير واضعي الدستور ضرورة لازمة لا يقوم بدونها العمل الوطني سوياً على قدميه. وما ذلك إلا لأن الحق في النقد - وخاصة في جوانبه السياسية - يعتبر إسهاماً مباشراً في صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, وضرورة لازمة للسلوك المنضبط في الدولة الديمقراطية, وحائلاً دون الإخلال بحرية المواطن في أن "يعلم"، وأن يكون - في ظل التنظيم بالغ التعقيد للعمل الحكومي - قادراً على النفاذ إلى الحقائق الكاملة المتعلقة بكيفية تصريفه.
  9. ينبغي أن يكون مفهوماً أن الطبيعة البناءة للنقد - التي حرص الدستور على توكيدها - لا يراد أن ترصد السلطة التنفيذية الآراء التي تعارضها لتحدد ما يكون منها في تقديرها موضوعياً, إذ لو ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق في الحوار العام. وهو حق يتعين أن يكون مكفولاً لكل مواطن, وعلى قدم المساواة الكاملة. وما تغياه الدستور في هذا المجال، هو ألا يكون النقد منطوياً على أراء تنعدم قيمتها الاجتماعية، كتلك التي تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية، أو التي تكون منطوية على مجرد الفحش أو محض التعريض بالسمعة. كما لا تمتد الحماية الدستورية إلى آراء تكوين لها بعض القيمة الاجتماعية، ولكن جرى التعبير عنها على نحو يصادر حرية النقاش أو الحوار، كتلك التي تتضمن الحض على أعمال غير مشروعة تلابسها مخاطر واضحة, تتعرض لها مصلحة حيوية.
  10. الطبيعة البناءة للنقد, لا تفيد لزوماً رصد كل عبارة احتواها مطبوع، وتقييمها - منفصلة عن سياقها - بمقاييس صارمة. ذلك أن ما قد يراه إنسان صواباً في جزئية بذاتها, قد يكون الخطأ بعينه عند آخرين. ولا شبهة في أن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيراً ما يلجئون إلى المغالاة، وأنه إذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس في المجال الذي لا يمكن أن تحيا بدونه, فإن قدراً من التجاوز يتعين التسامح فيه, ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط في بعض الآراء مستوجباً إعاقة تداولها.
  11. الحماية الدستورية لحرية التعبير - في مجال انتقاد القائمين بالعمل العام - غايتها أن يكون نفاذ الكافة على الحقائق المتصلة بالشئون العامة, وإلى المعلومات الضرورية الكاشفة عنها, متاحاً، وألا يحال بينهم وبينها اتقاء لشبهة التعريض بالسمعة. ذلك أن ما نُضيفه إلى دائرة التعريض بالسمعة - في غير مجالاتها الحقيقية - لتزول عنه الحماية الدستورية، لا بد أن يقتطع من دائرة الحوار المفتوح المكفول بهذه الحماية, مما يخل في النهاية بالحق في تدفق المعلومات، وانتقاد الشخصيات العامة بمراجعة سلوكها وتقييمه. وهو حق متفرع من الرقابة الشعبية النابعة من يقظة المواطنين المعنيين بالشئون العامة, الحريصين على متابعة جوانبها السلبية, وتقرير موقفهم منها, ومؤدى إنكاره أن حرية النقد لن يزاولها، أو يلتمس طرقها إلا أكثر الناس اندفاعاً وتهوراً، أو أقواهم عزماً.
  12. ليس أدعى إلى إعاقة الحوار الحر المفتوح، من أن يفرض قانون جنائي قيوداً باهظة على الأدلة النافية لتهمة التعريض بالسمعة - في أقوال تضمنها مطبوع - إلى حد يصل إلى إهدار الحق في تقديمها, وهو ما سلكه النص التشريعي المطعون فيه. ذلك أن الأصل وفقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 302 من قانون العقوبات, هو أن انتقاد القائم بالعمل العام, أو من كان مضطلعاً بأعبائه يعتبر أمراً مباحاً بشروط من بينها إثبات الناقد لحقيقة كل فعل أسنده إليه. وقد نظم قانون الإجراءات الجنائية في الفقرة الثانية من المادة 123 منه الكيفية التي يتم بها هذا الإثبات, وذلك بإلزام المتهم بأن يقدم للمحقق عند أول استجواب له - وعلى الأكثر في الخمسة الأيام التالية - بياناً بالأدلة على صحة كل فعل أسنده إلى القائم بالعمل العام, وإلا سقط حقه في تقديم الدليل.وإسقاط الحق في تقديم الدليل على هذا النحو, لابد أن يعقد ألسنة المعنيين بالعمل العام خوفاً، إذا هم أخفقوا في بيانه خلال ذلك الميعاد الذي ضربه المشرع, وهو ميعاد بالغ القصر.
    وعبئاً على هذا النحو من الثقل، لابد أن يكون مثبطاً لعزائم هؤلاء الحريصين على إظهار نواحي القصور في الأداء العام, لأنهم سيتحرجون من إعلان انتقاداتهم هذه، ولو كانوا يعتقدون بصحتها, بل ولو كانت صحيحة في واقعها, وذلك خوفاً من سقوط الحق في تقديم الدليل عليها.
  13. السقوط المقرر بالنص التشريعي المطعون فيه, هو مما لا تترخص محكمة الموضوع في تقديره, بل يعتبر مترتباً بقوة القانون, بما مؤداه أنه إذا ما حكم بهذا السقوط، عومل الناقد باعتباره قاذفاً في حق القائم بأعباء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، ولو كان نقده واقعاً في إطارها، متوخياً المصلحة العامة كاشفاً عن الحقيقة دائماً، مؤكداً لها في كل جوانبها وجزئياتها، مقروناً بحسن النية, مجرداً من غرض التجريح أو التهوين من مركز القائم بالعمل العام. وهو ما ينحدر بالحق في النقد العام إلى منزلة الحقوق محددة الأهمية. ويخل بتعدد الآراء التي يتعين أن يشتمل عليها امتياز الحوار العام.
  14. إن النص المطعون فيه, ينال كذلك من ضمانه الدفاع التي لا تقتصر قيمتها العملية على مرحلة المحاكمة، بل تمتد مظلتها كذلك, وما يتصل بها من أوجه الحماية، إلى المرحلة السابقة عليها. وهي بعد ضمانة كفلها الدستور من خلال إلزام الدولة بأن تعمل على تقرير الوسائل الملائمة التي تُعين بها المعوزين على صون حقوقهم وحرياتهم. وهي أكثر ما تكون لزوماً في مواجهة القيود التي تُقَوض الحرية الشخصية أو تحد منها. وكذلك كلما ترتب على تفويتها، سقوط الحق في تقديم الدليل عند الفصل في اتهام جنائي، بما يصادم المفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. ويناقض بالتالي القواعد المبدئية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها, والتي تعكس في جوهرها نظاماً متكامل الملامح يتوخى صون الحق في الحياة، والحرية، والشخصية المتكاملة.
  15. من غير المتصور أن يكون دور المحامين رمزياً أو شكلياً، متخاذلاً، أو قاصراً عن أن يقدم للمتهمين تلك المعاونة الفعالة التي يقتضيها النظام الاختصامي للعدالة الجنائية, وقوامها الفرص المتكافئة التي يواجهون من خلالها الأدلة التي طرحتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة, مع الحق في دحضها بأدلة النفي التي يقدمونها - لا خلال فترة زمنية محددة لا يحيدون عنها - بل كلما كان ذلك ممكناً, وإلى أن تصل المحاكمة الجنائية ذاتها - وعلى امتداد مراحلها - إلى خاتمتها. ودون ذلك لا يكون المحامون شركاء للسلطة القضائية في سعيها دأباً للوصول إلى الحقيقة، والتماس الوسائل التي تُعينها على تحريها.
  16. يقيم النص المطعون فيه - في مجال مواجهة الاتهام الجنائي - تمييزاً بين من عناهم من القاذفين في حق القائم بالعمل العام, وبين غيرهم من المتهمين. ودون أن يكون هذا التمييز مستنداً إلى أسس موضوعية لها ما يظاهرها. وهو ما يُعْجِز المحامين عن إدارة الدفاع عن موكليهم وفق أصول المهنة ومقتضياتها, وينحدر بضوابط ممارستها إلى حد إهدار مستوياتها الموضوعية التي يفترض أن يكون التزامها والنزول عليها, حائلاً دون تقييد الحرية الشخصية بغير إتباع الوسائل القانونية السليمة, سواء في جوانبها الإجرائية أو الموضوعية.
  17. إذ كان الدستور - بالنصوص التي كفل بها ضمانه الدفاع - يفترض ألا يقوم المحامون بعمل من جانبهم يخل بالمعاونة الفعالة التي ينبغي عليهم تقديمها لموكليهم صوناً لحقوقهم, فإن التدخل تشريعياً بما يعوق إنفاذ متطلباتها, يكون, كذلك ومن باب أولى - ممتنعاً دستورياً. ذلك أن مسار الدعوى الجنائية - في إطار الأحكام التي تضمنها النص المطعون فيه - لن يكون معبراً عن الحقيقة حتى في صورتها الراجحة, بل مشككاً في نتيجتها، ومزعزعاً الثقة في محصلتها النهائية، وهو ما يعبر هدماً للعدالة ذاتها, بإنكار موجباتها.
  18. لئن صح القول بأن كل إهمال للضوابط المثالية التي تفرضها المهنة على المحامين, لا يخل بالضرورة بضمانة الدفاع, وأن معيار فعاليتها لا يكون بإنكار حق المحامين في الخلق والابتكار بما يحد من خياراتهم فيما يعد لازماً لإدارة الدفاع عن موكليهم, وإنما يتحدد هذا المعيار على ضوء ما يعد وفقاً للمقاييس الموضوعية سلوكاً معقولاً يتقيد به المحامون وفقاً لأصول مهنتهم, وكان من الصحيح كذلك أن النص المطعون فيه يؤول عملاً إلى طمس الحقائق المتعلقة بنواحي التقصير في أداء القائمين بالعمل العام, فإنه بذلك يكون منحياً لضمانة الدفاع، ومخالفاً أحكام الدستور التي تتوخى أن تكون المحاكمة الجنائية إطاراً منصفاً للفصل في الاتهام الجنائي, وأن يكون مدارها وغايتها النهائية, استكناهاً للحقيقة بكامل أبعادها, وبمراعاة أن ضمانة الدفاع هي المدخل إليها, والطريق إلى تعمق أغوارها.

المصدر: بوابة مصر للقانون والقضاء


عدد القراءات: 217